التنشئة الوالدية والأمراض النفسية عند الأطفال:
طبيعة التنشئة الوالدية:
هناك اختلاف بين الطفل الإنساني والطفل الحيواني، وذلك من حيث شدة حاجته إلى الرعاية والحماية، وكذلك من حيث طول الفترة التي يقضيها قبل أن يستطيع الاعتماد على نفسه، ويكون قادراً على مواجهة الحياة وتحمل المسؤولية فالسلوك الإنساني يتأثر بعوامل عديدة بعضها يعود إلى العوامل الوراثية واضطرابات الغدد، والبعض الآخر يعود إلى العوامل البيئية والتي تتمثل في عمليات التعلم، والتنشئة الوالدية في الأسرة، والعلاقات التي تتم بين الطفل وزملائه في المدرسة، وكذلك من خلال المحيط الاجتماعي والثقافي العام الذي يعيش فيه الطفل.
ونظراً للدور الذي تقوم به العوامل البيئية في تحديد وتشكيل السلوك الإنساني فقد تزايد الاهتمام من قبل علماء النفس وعلماء الاجتماع بعملية التنشئة الاجتماعية، وهي العملية التي يتحول من خلالها الوليد من كائن بيولوجي إلى كائن اجتماعي، وذلك من خلال عملية التفاعل مع الأسرة والمدرسة وبقية الأفراد الآخرين الذين لهم علاقة مع الطفل.
وبذلك تعتبر التنشئة الوالدية من أهم العوامل البيئية التي تتم من خلالها عملية التنشئة الاجتماعية. فقد أجمع علماء النفس باتجاهاتهم المختلفة على أن أساليب التربية التي يتبعها الوالدان في تنشئة أطفالهما لها أكبر الأثر في تشكيل شخصياتهم في المستقبل، وفي نوع الاضطرابات النفسية التي يتعرضون لها.
ولهذا ترى نظرية التحليل النفسي أن السنوات الخمسن الأولى من حياة الطفل تعتبر أهم سني حياته على الإطلاق، وهي التي تترك آثاراً كبيرة في نفسية الفرد. كما يرى فرويد أن أسباب المرض النفسي تعود إلى استعداد ناتج عن الليبيدو. وهذا الاستعداد يتوقف على الخبرات الطفلية للفرد.
كما يرى السلوكيون (دولارد، میلر، سیرز، مورر) أن الإنسان يولد مزوداً باستعدادات أولية تشكل المادة الخام لشخصيته، ثم تبدأ هذه الاستعدادات بالنمو والتطور والتعديل استناداً إلى مبادىء التعلم في الأوساط التربوية وخصوصاً الاسرة.
بالإضافة إلى ما يؤكده علماء النفس من العلاقة بين التنشئة الوالدية والإصابة بالأمراض النفسية، فإن الأطباء النفسيين يقررون أن التنشئة الوالدية تلعب دوراً يتفاوت في أهميته في نشأة العصاب والذهان.
مفهوم التنشئة الوالدية:
يشير مفهوم التنشئة الوالدية إلى نوع المعاملة التي يتلقاها الطفل من والديه في المنزل وطبيعة علاقته بها. ويقصد بها كل سلوك يصدر عن الوالدين ويؤثر في الطفل وفي شخصيته سواء أقصد بهذا السلوك التوجيه أم التربية.
ولهذا تعتبر التنشئة الوالدية موضع اهتمام كبير من قبل علماء النفس، حيث أنها تعتبر من أهم العوامل البيئية التي تؤثر في سلوك الإنسان وفي شخصيته، ولهذا يتضمن مفهوم التنشئة الوالدية العمليات الآتية:
1.التأثير الذي يحدث في سلوك الطفل من جراء استجابة الوالد أو الوالدة أو کليهما لسلوكه.
2.التأثير الذي يحدث في سلوك الطفل من جراء أساليب الثواب والعقاب التي يتخذها الوالد أو الوالدة أو كلاهما بقصد تعليمه أو تدريبه.
3.التأثير الذي يحدث في سلوك الطفل من جراء اشتراكه في المواقف الاجتماعية التي يتيحها له الوالد أو الوالدة أو كلاهما بهدف تعليمه الأساليب الصحيحة للسلوك في نظرهما.
4.التأثير الذي يحدث في سلوك الطفل من جراء التوجيهات المباشرة والتعليمات اللفظية التي يوجهها الوالد أو الوالدة أو كلاهما بقصد توجيهه إلى الأساليب الصحيحة في السلوك.
التأثير الذي يحدث في سلوك الطفل من جراء التعارض بين أسلوب الوالد وأسلوب الوالدة في طريقة تربية الطفل، وأسلوب معاملته.
مدى أهمية التنشئة الوالدية:
للتنشئة الوالدية أهمية كبيرة في التأثير في سلوك الطفل ونموه وشخصيته. فالتنشئة الوالدية تنطوي على الكثير من أساليب التفاعل مع الطفل، والكثير من العادات والتقاليد وأساليب السلوك التي يمارسها الآباء من خلال عملية التنشئة الوالدية. كما يسود في كل أسرة جو خاص يحكم العلاقات بين أفرادها، وهذا الجو وما يتصف به من دفء وحنان أو من قسوة وكراهية أو من ديمقراطية أو تسلطية أو تدليل يؤثر في شخصية الطفل وسلوكه في المواقف اليومية المختلفة.
ولهذا يكون للعلاقات النفسية التي يكونها الطفل مع أمه في السنوات الأولى من حياته أثر في تحديد ملامح شخصيته، فإذا لم تكن هذه العلاقة حميمة فإنه يكون من الصعب تكوينها فيما بعد. ویری اریکسون Erikson، أن فترة الطفولة الأولى هي فترة الإحساس بالثقة والتغلب على الإحساس بعدم الثقة، حيث يستمد الطفل ثقته بنفسه وبالآخرين من خلال علاقته بأمه.
بالإضافة إلى ذلك، فإن دور الأم في مشاركة الطفل وجدانياً له أثر كبير في تربية الطفل. فالأم التي تخصص وقتاً أطول في اللعب مع الطفل تكتسب وده وصداقته مما يؤدي إلى علاقة حميمة يسودها الدفء والتقبل.
ولكن الدراسات أكدت أنه ليس المهم في عدد الساعات التي تقضيها الأم مع طفلها ولكن في نوعية التفاعل الحاصل بين الطفل وأمه، إذ قد تقضي الأم وقتاً طويلاً مع الطفل في غرفة واحدة، إلا أن التفاعل بينهما يكون ضعيفاً.
ولهذا يرى کون Kohn، أن مستوى وعي الأم يعتبر عاملاً أساسياً في معاملة الطفل. فالأم الواعية تهتم كثيراً بعملية تربية الطفل، وذلك من خلال تأكيدها على أهمية الإشباع النفسي والسعادة والانضباط الذاتي للطفل. في حين أن الأم المفتقرة إلى الوعي التربوي تهتم فقط بالمسايرة الإجتماعية أو الطاعة العمياء.
كما أثبتت الدراسات أن أطفال الأسر التي يسود فيها الجو الديمقراطي والذين كانوا سعداء انضباطيين في مرحلة الحضانة كانوا أكثر نشاطاً، وأكثر رغبة في التطلع والاستكشاف. في حين أن أطفال الأسر التي تتبع أساليب التدليل والتحفظ کانوا أكثر خوفاً من التعرض للخطر وأكثر محافظة على أجسامهم وملابسهم، وأن المهارات الكبيرة كانت لديهم أقل نمواً.
أما الأسر التسلطية فتنمي عند أبنائها التميز العنصري والتعصب، والخوف من السلطة أو الطاعة العمياء. أو تنشيء فرداً لديه مشاعر الذنب والقلق وفقدان الثقة بالنفس بشكل واضح، وهذا الأسلوب في التربية من شأنه أن يغرس أنماطاً تسلطية، ونزعات عدوانية في سلوك الأبناء فيها بعد.
ولهذا يقول کولي Cooley : (إن المجتمع مرآة يرى المرء فيها نفسه). فالطفل الذي يعامل بالتسلط لا بد أن يظهر التسلط والعدوان في سلوكه. ويرى مورفي Murphy، ووايت White أن التزمت الشديد في التنشئة الوالدية يؤدي إلى ظهور اضطرابات سلوكية متعددة وخاصة القلق والتطرف الفكري والعقائدي، وحالات الهستيريا.
كما أن للمستوى الاجتماعي والاقتصادي والثقافي للوالدين أثراً في سلوك الطفل. فالأمهات الأكثر تعليماً والأفضل من حيث المستوى الاجتماعي والاقتصادي والثقافي أكثر ميلاً إلى توفير الاستقلال لأطفالهن، وأكثر تعاوناً وميلاً إلى المساواة بين أطفالهن، في حين أن الأمهات الأقل تعليم والأدنى من حيث المستوى الاجتماعي والاقتصادي والثقافي كن أكثر ميلاً إلى الضبط والعقاب.
بالإضافة إلى ذلك فإن الحجم الأسرة، وترتيب الطفل الميلادي بين أخوته، ونوع جنس الطفل، وعمر الوالدين، كل ذلك يؤثر في أسلوب تنشئة الطفل، ولكن كل واحد من هذه العوامل ليس هو المؤثر الوحيد، وإنما يعتبر أحد المؤثرات والذي يتفاعل مع غيره للتأثير في سلوك الطفل وشخصيته.
فقد وجد روزنبرغ Rosenberg، أن هناك اختلافاً جوهرياً بين أسلوب معاملة الطفل عند أمهات الأسر الكبيرة وأمهات الأسر الصغيرة، وذلك بسبب الأجواء التربوية والنفسية والاجتماعية التي تتهيأ للطفل في كلا النوعين من الأسر. كما وجد بلوك Bullock أيضاً أن علاقة الطفل المبكرة بالأم تتأثر إلى حد ما بحجم الأسرة وعدد الأطفال لدى الأم، حيث أنه كلما زاد عدد الأفراد في الأسرة كلما كثرت مسؤوليات الأم، وقل اهتمامها بالأبناء.
وفي دراسة أخرى أجراها مولیر و مولیز على عينة من الأسر تتألف من 89 أماً وأطفالهن، تبين أنه كلما صغر عمر الأم كان تأثيرها أكثر في عملية التفاعل مع الطفل، وأنها تقضي وقتاً أطول في اللعب معه بالمقارنة مع الأمهات الأكبر سناً.
من جهة أخرى، فإن اتجاهات الوالدين نحو ذواتهم ينعكس على اتجاهاتهم نحو الآخرين، حيث أن تقبل الذات يرافقه تقبل الآخرين، وعدم تقبل الذات ينعكس على عدم تقبل الآخرين، ولهذا فإن الاتجاهات التي يكونها الطفل نحو ذاته ونحو الآخرين والتي تحدد سلوكه وشخصيته، تنعكس تلك على إنجازه الدراسي وأساليب تفاعله مع الآخرين. وهذا يتوقف بدرجة أساسية على مدى تقبل الوالدين للطفل في طفولته المبكرة والتي تعتبر كما ترى مدرسة التحليل النفسي أهم المراحل في تكوين شخصية الإنسان.
العلاقة بين التنشئة الوالدية والأمراض النفسية للأطفال:
لقد أعارت النظريات النفسية والسيكاترية أهمية كبيرة للتنشئة الوالدية ولطبيعة العلاقات التي تتم بين أفراد الأسرة في نشوء المرض النفسي عند الأطفال، منطلقة في ذلك أن المريض هو الأسرة، بمعنى أن الأسرة تشكل الأرض الخصبة لنشأة المرض النفسي.
ولهذا يرى بوین وآخرون، أن الأسرة وحدة واحدة، والعضو المريض داخل الأسرة هو الشخص الذي عبرت عن طريقه الأسرة عن اضطرابها (فهو عرض لما تعانيه الأسرة من اضطراب).
كما يرى باتسون وزملاؤه، أن الطفل يقع فريسة للمرض النفسي عندما يتعرض الاتصال بينه وبين الأم للتشويه.
أما أکرمان Ackerman، فيركز على المناخ الوجداني والاتجاهات العاطفية المتفاعلة داخل الأسرة. حيث يرى أن الأسر المريضة يوجد عندها نوع من التناقض الوجداني بين ما يبدو على السطح وما يوجد في الداخل. فما يبدو على السطح يتصف بالهدوء والثبات والاستقرار، ولكنه هدوء يتصفبالركود، وثبات أميل إلى الجمود.
ويرى الوالدان أن الأشياء يجب أن تبقى كما هي، حيث ينتشر نوع من الموت الوجداني في الأسرة. وهذا الجو ينعكس على التعامل بين أفراد الأسرة ويصبغها بصبغة اكتئابية. فالهدوء الظاهري المصطنع سرعان ما تمزقه بين الحين والآخر بعض الثورات العنيفة التي تبدأ من حادث بسيط، ولكنه سرعان ما يشمل الأسرة كلها، وينقلب الهدوء إلى ثورة غامرة وذعر شديد. ولهذا يصبح المنزل مكانة موحشة فارغة من العلاقات الإنسانية الحميمة والدافئة فكل شيء يفقد معناه داخل هذه الأسرة و كل واحد ينظر إلى الأخر دون أن يراه. كما تحرص مثل هذه الأسرة على تأكيد قيم التفاني الكاذب عند أبنائها وضرورة التضحية. لذا يشعر أبناء هذه الأسر بالقلق والشعور بالذنب مما يؤدي إلى سيادة مثل هذا الشعور عند كل أفراد الأسرة. ولهذا يسقط الفرد مشاعره على العالم الخارجي فيدركه عالم قاسياً وغير آمن.
أما العالم شولمان Shulman، فيعتقد أن الفصامي يصنع ولا يولد، وهذه الصناعة تبدأ منذ الطفولة.
أن هناك عاملاً وسيطاً هو القيم الشخصية، وهذه القيم الشخصية التي يكونها الفرد بنفسه هي التي تؤدي إلى المرض. وهذه القيم يكتسبها الفرد في أسرته في أثناء الطفولة عن طريق تعليم الوالدين له كيفية الاستجابة في مختلف المواقف.
في حين أن وولمان Wolman، يرى أن الفشل وخيبة الأمل اللذين يواجههما الوالدان لها أثر كبير في نشأة المرض عند الطفل. فمثل هؤلاء الآباء لا يبحث كل منهم عند الزواج عن شريك ناضج، وإنما يبحث عن آباء محبين عطوفين في أزواجهم. ولهذا يتوقع كل منهما أن يجد عند الأخر ما يفتقده هو، وما يفتقده الطرف الأخر أيضاً. وسرعان ما يشعران بالإحباط والضيق والفشل المرير.
وهذا الشعور عند الوالدين هو المناخ المناسب الذي تنشأ فيه المهيئات المرضية. فالطفل في هذه الأسر ينشأ مثل غيره من الأطفال قاصراً ضعيف الحيلة يحتاج إلى مساعدة الآخرين. ولكنه يتحقق بعد ذلك أن هناك شيئاً مختلفاً بالنسبة إلى اعتماده على مساعدة والديه. فهو لا يجد مساعدة وإنما يجد استحواذاً. ويعيش تحت تهديد مستمر بأن يفقد حب الوالدين إذا فكر أن يخرج على الأساليب المحددة له، وكلما أجهد الطفل نفسه في إرضاء والديه، طلبا منه المزيد، وكلما أعطى لهما من الحب عجل ذلك في إنهاك مصادره العاطفية وانتهى به الأمر إلى انهيار ذهاني.
كما وجد كاسانين، ونایت، وساج Kasani , Knight & Sage، أن أسلوب الحماية الزائدة والرفض عند آباء المرضى الفصاميين. يمثل 60% من مجموع أساليب معاملة آباء مجموعة من الفصاميين. كما وجد شبيغل ویلSpiegel & Bell أن أمهات الفصاميين يتسمن بعدم الأمن والسطحية والتصلب والسيطرة. ولهذا فإن مثل هذه السمات المرضية عند الآباء تنعكس على أساليب المعاملة لأبنائهم وتجعلها غير سوية، كما تجعل الجو الأسري مضطرباً وغير صالح للنمو السوي.
وفي دراسة أجريت في الولايات المتحدة الأميركية في ولاية ميتشيغن على 005 طفل تم استنتاج الآتي:
• وجدت علاقة واضحة بين العدوان غير الاجتماعي عند الأطفال وبين سلوك الرفض من قبل الآباء.
• كما وجدت علاقة بين سلوك الجنوح عند الطفل وسلوك الإهمال من قبل الآباء.
وفي دراسة أخرى أجراها کاس Cass، وجد علاقة بين سلوك الجنوح عند الطفل وسلوك التحكم عند الآباء. وفي دراسة قام بها ليفي Levy عن العلاقة بين الحماية الزائدة عند الأمهات وأثرها في سلوك الأبناء.
فوجد أن الأطفال الذين يعاملون بحماية زائدة معتمدة على التساهل كانوا عنيدين ومستبدين في المنزل، وتنتابهم نوبات الغضب ومن الصعب السيطرة عليهم. أما الأطفال الذين عوملوا بحماية زائدة قائمة على السيطرة فقد كانوا خانعين في المنزل ومن الصعب عليهم تكوين الصداقات، كما يميلون إلى السيطرة أو الانسحاب، ونصفهم كان يعاني من مشكلات بالأكل.
المصدر:
الأمراض النفسية والمشكلات السلوكية والدراسية عند الأطفال، د.أحمد محمد الزعبي، دار زهران للنشر والتوزيع – سلطنة عمان، 2013.